أنا وجاسم ودانه… وكل الأشياء.
أنا وجاسم ودانه… وكل الأشياء.
قلم: محمد هيثم
وقتها كان الفجر، متسدح على السرير وأقلب بجوالي كالعادة، ولقيت خصومات من مكتبة تكوين. دخلت الموقع، وأول شي طاح نظري عليه كتاب "كل الأشياء" لبثينة العيسى. قريت قصته وشريته بالصدفة… وما أجمل الصدف.
هل نحن نقرأ الرواية، أم الرواية هي التي تقرأنا؟ في الحقيقة لا فرق. كلنا شخصيات هامشية في رواية كبرى كتبها كاتب ملول، ثم رماها في القمامة وسمّاها "الحياة". بثينة العيسى في روايتها تضع يدها على الجرح، ثم تضحك ضحكة من يعرف أنه خاسرًا من البداية. نحن نعيش في عالم يُقاس بالخصومات في "مكتبة تكوين"، باللايكات على إنستغرام، وبعدد المرات التي نعيد فيها شحن الرصيد. كل شيء قابل للبيع: الوطن، الأفكار، وحتى الأحلام.
عالم الرواية ليس غريبًا علينا؛ نسخة من الواقع الذي نعيشه كل يوم. عالم يعلّمك أن الحقيقة مُرعبة، وأن المجتمع آلة صامتة مهمتها طحن الأفراد، وتحويلهم إلى نسخ مطابقة يبتسمون في المناسبات ويتصوّرون أمام الأعلام، ثم يعودون إلى غرفهم ليبكوا بصمت. والفكرة الأساسية التي ترويها بثينة العيسى هي أن كل محاولة للبحث عن المعنى، ستصطدم بجدار صلد من العبث: من أنا؟ ما الذي أريده؟ لماذا أشعر بالذنب لمجرد أنني موجود؟ هذه الأسئلة تربّت على الخوف: الخوف من الله، من الناس، من الفضيحة، من الخطأ، من أن تكون نفسك ببساطة.
جاسم عبدالمحسن… وجهٌ آخر للكويت:
جاسم يشبهني، ويشبهك، ويشبه الكويت. رجل محاصر بذكرياته، محكوم بالخوف، يعيش في منطقة لا يستطيع فيها أن يكون بطلاً، ولا يريد أن يكون ضحية. جاسم هو ذلك الجيل الكويتي الذي كبر في ظل الحروب والأزمات والرقابة. جيل اعتقد أن الحرية ستأتي على طبق من ذهب بعد التحرير، فاكتشف أن الثمن المطلوب هو الصمت. جيلٌ تعلّم أن يبتسم أمام الكاميرات، وأن يكتب في تويتر بين السطور، وأن يدفن غضبه في نفسه حتى لا يقال إنه "خارج السرب"
جاسم عبدالمحسن شاب كويتي يعيش في عالم يبدو فيه كل شيء ممكن، لكنه في الحقيقة محاصر. منذ صغره تعلّم أن يخفي خوفه وأن يتصرف بما يرضي الآخرين. واجه جاسم الضياع النفسي منذ البداية: ضياع الهوية، ضياع الحرية، وضياع الحب الذي كان يراه بعيدًا. تعلّم مبكرًا أن الأسئلة الكبيرة عن الذات والحياة قد تكون مؤلمة أكثر من أي جواب. كل يوم كان يستيقظ على روتين خرساني، ثم النوم على وهم أن الغد سيكون مختلفًا.
فقرر جاسم أن يكتب مقالًا ردًا على والده، المقال كان محاولة لتوضيح حقيقة شعوره بالاختناق: كيف أن قيود الأسرة والمجتمع والحياة اليومية خنقته، وكيف أن الخوف يسيطر على كل ما يفعل أو يقول. لكن هذه الجرأة لم تمر بلا ثمن. فكان هذا المقال كافيًا ليوقظه على سجن حقيقي. جاسم اكتشف فجأة أن التعبير عن الذات حتى بالكلمات، يمكن أن يقودك إلى قيود أكثر صلابة من أي جدار.
دانه… كل شيء وجميع الأشياء:
دانة، هي الحب، الضياع، الحلم، الانتماء. وحتى المحور المرجعي لكل صراعات جاسم الداخلية، وكل الأسئلة التي يواجهها عن حياته وعن العالم من حوله. دانه تمثل الكويت كما يراها جاسم: جميلة ومشرقة، لكنها معقدة وصعبة الفهم. هي الحنان الذي يطمئن، لكنها في الوقت نفسه الاختبار الأكبر لكل من يقترب منها. وجودها يفرض على جاسم مواجهة مشاعره، مواجهة خوفه من الفقد، ومواجهة الحاجة الملحّة لفهم نفسه.
هي أيضًا رمز لكل الأشياء الأخرى في الرواية: الحلم الذي يبدو قريبًا لكنه يبتعد عند أول محاولة للتمسك به، الحب الذي يشبه السراب، الشعور بالانتماء الذي يأتي مؤقتًا ثم يختفي، وحتى الشعور بالضياع الذي لا يتركك لحظة واحدة. كل مشهد/موقف مع دانة يذكّر جاسم -والقارى- أن الحياة مليئة بكل الأشياء، لكنها لا تمنحك أي شيء كاملاً.
كل الأشياء: أنا والضياع والحلم:
حين أغلقت رواية كل الأشياء لبثينة العيسى، شعرت أنني عشت تجربة كاملة، تجربة جعلتني أرى نفسي، جاسم عبدالمحسن، وحتى العالم من حولي بطريقة مختلفة تمامًا. هذه الرواية هي أعظم ما قرأت في حياتي لأنها جعلتني أكتشف حقيقة لم أكن مستعدًا لها: أن كل الأشياء التي نبحث عنها في الخارج موجودة داخلنا، لكنها مخفية وراء طبقات من الخوف والروتين والامتناع عن مواجهة الذات.
كل صفحة كنت أقرأها شعرت أنني أقرأ عن نفسي. كل صمت، كل نظرة، كل شعور بالوحدة والضياع، كان يعكس ما بداخلي. شعرت أن الرواية تقول لي "هذه قصتك أيضًا، هذه حكايتي وحكايتك، هذا أنت". لم أجد في أي رواية أخرى مرآة بهذه الصراحة والعمق.
تعليقات
إرسال تعليق