وحدها شجرة الرمان: ديمقراطية بنكهة الرمان الفاسد


 وحدها شجرة الرمان: ديمقراطية بنكهة الرمان الفاسد

قلم: محمد هيثم


اقتباس: "يا شجرة الرمّان، حنّي على الولهان، جسمي نِحلْ والرّوح، ذابت والعظُم بانْ، من علّتي البِحشايْ، ما ظل عندي راي، دائي صعب ودوايْ، ما يعرفه إنسانْ، يوم الّذي حبيت، يا منيتي جنيتْ، حاير أنا ظلّيتْ، ما أدري ذنبي شجان؟ ما عندي كل ذنوب، إلا هوى المحبوب، لا هو ذنب داتوب، متصبّر الرحمن، متصبّر الرحمن. يا شجرة الرّمان، حنّي على الولهان!"

الرمانة تقف وحيدةً في ساحةٍ فارغة:

تخيّلوا معي: هناك رواية، عنوانها "وحدها شجرة الرمان"، تجلس في ساحةٍ مهجورة وحيدة لكنها عنيفة. تتحدّى الغبار السياسي الصعب الذي يزهو بالكلام الفارغ: "سنة انتخابية منحصبة دون إنجازات تُذكر." أما الرمانة؟ فثلاثون صفحة تكفيها لتفجير التربة الأدبية، وإحياء مشروع إنسانيّ عراقي راسخ.

دعونا نلعب لعبة ساخرة: من سيفوز، النشرة الانتخابية الملوّنة التي تُوزَّع في الطرقات، أم روايةُ "وحدها شجرة الرمان"؟ النشرة تُختم بتاريخٍ مستقبلي: "– هذا وعدٌ من الغد!" أمّا الرواية فتنشر الواقع: "– هذا أنا الآن: شجرةٌ وحيدةٌ، لكنّها مثمرة، رغم الحصار."

الرواية التي بدأت في المغسل وانتهت في الوطن:

البطل "جوّاد" شاب بغدادي من عائلة شيعية، لم يختَر السياسة، ولم يدخلها، لكنه وُلد في قلبها رغماً عنه. ترك كلية الفنون الجميلة، لأنّ الحرب جاءت، ومعها الموت بالجملة، ووجد نفسه في مهنة ورثها عن أبيه: غسل الموتى وتكفينهم. وفي مغسل الموتى لا فرق بين سني وشيعي، بين من مات بطلقة عشوائية أو بانفجارٍ "ديمقراطي" أحدثته صناديق الاقتراع المسلحة. الكلّ يُغسَّل بنفس الماء، ويُلفّ في نفس الكفن، لكن الفرق الوحيد أنّ بعضهم يُغسل بدمٍ لم يجف بعد.

جوّاد، الذي كان يحلم برسم لوحات ملونة، وجد نفسه يرسم الموتى بالكفن الأبيض. كأنّ اللوحة النهائية للوطن مرسومة بالطباشير على لوح أسود، وكل محاولة للتلوين تذوب تحت المطر السياسي الفاسد.

وحين كان يقف أمام شجرة الرمان، يلمح فيها ما يشبه لوحة مهجورة: غصن يحمل ثمرة. كان يتمنى أن يرسمها، لكن الفرشاة كانت مشغولة في مكان آخر، ترسم على وجوه الأحياء ملامح خوفٍ جديد، وعلى وجوه الموتى ملامح ارتياح غامض، كأنهم أخيرًا تحرروا من ألوان الكذب. والرواية بلسان سنّان أنطون، جعلت هذه المهنة - غسل الموتى - عدسة نرى من خلالها مأساة وطن بكامله. المغسل تحوّل إلى مسرح يومي للموت القادم من كل الجهات: قذيفة طائشة هنا، سيارة مفخخة، اغتيال صامت. وفي قلب كل هذا كان جوّاد يحاول التمسك بشيء من الفن، بشيء من ذاته، لكن رائحة الموت كانت أثقل من رائحة الألوان.


الرمانة كصندوق اقتراع:

تأملوا الرمانة: شكلها جميل، لونها مُغري، لكنك لا تعرف ما بداخلها حتى تفتحها. قد تكون حلوة، وقد تكون فاسدة. نفس الشيء مع صندوق الاقتراع — واجهة براقة، وعود مليئة بالعصير، لكنك لا تعرف الطعم الحقيقي إلا بعد أن تفتح النتيجة. وإذا كان الحظ عاثرًا، ستجد الديدان تحت القشرة. ولو استطاعت الرمانة أن تكتب مذكراتها، لبدأت من أيام كانت الشجرة محاطة بضحكات الأطفال، مرورًا بالانفجارات التي جعلت الدخان يحجب الشمس عنها، وصولًا إلى اللحظة التي تُركت فيها وحيدة، تراقب صمت البيت بعد أن هجره أهله أو غابوا إلى مثواهم الأخير. فهي أرشيف صامت، لا يُفتح إلا لمن يعرف كيف يقرأ في شكل البذور ومذاق العصير.

"أنطون" لم يضع الرمانة في الرواية عبثًا. كان يعرف أن القارئ الحصيف سيقشرها بحثًا عن المعنى، وسيجد أنها تشبه الوطن: جَمالٌ مُعلَّق في الهواء، يمكن أن يكون غذاءً، أو أن يُترك حتى يتعفن ويسقط. لذا القرار بيد من يملك الجرأة على قطفها في الوقت المناسب.

لكن الرمانة التي تُثمر اليوم، قد تفسد غدًا، إذا بقيت محاطة بذات التربة الملوثة. وهنا يأتي البعد السياسي اللاذع: الديمقراطية التي بُشّر بها العراقيون بعد 2003، والتي كان يفترض أن تكون كالرمانة الحمراء الشهية، تحولت بسرعة إلى رمانة فاسدة، مشبعة برائحة الفساد والطائفية والولاءات الضيقة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الآن… هنا: رواية وطن في قفص.

حدائق الرئيس: كيف تُزهر الورود فوق المقابر… وتصفّق لها الشعوب