الآن… هنا: رواية وطن في قفص.
الآن… هنا: رواية وطن في قفص.
قلم: محمد هيثم
"وهكذا… وكل شيء". عبارة تبدو في ظاهرها استسلاماً قهريًا أمام تيار الحياة الجارف، لكنها في عمقها سلاح منيفيّ حاد، يلخّص مأساة الإنسان العربي وهو يقف في منتصف الطريق بين المعتقل والسجن الأكبر الذي يُسمى "الوطن". نعم الوطن، تلك الكلمة التي أُفرغت من معناها وصارت سجنًا بلا قضبان… عبد الرحمن منيف في "الآن… هنا" دوّن نشيداً جنائزيًا للكرامة العربية المسلوبة، ومرآةً كبيرة كُتب عليها بحبرٍ من دماء المعتقلين: وهكذا… وكل شيء!
حين أنهيتُ "الآن… هنا"، شعرتُ أن منيف كان يكتب عني، عنك، عن الجميع. هي محاكمة لفكرة "التسامح مع الظلم"، لفكرة أن الاستبداد قد يُصبح جزءاً من ديكور الحياة اليومية، نراه في نشرات الأخبار، نراه في وجوهنا أمام المرآة. وهكذا… تصبح الزنزانة أصغر من هذا العالم الكبير. في الزنزانة لا يمكن للكذب أن يعيش طويلاً. ومنيف يُجبرك على أن تجلس بجانب "الرجل الآخر" في الرواية، تستمع إلى همس العذاب، تشمّ رائحة الرطوبة التي لا تُفارق جدران السجون العربية، وتسمع تكتكة الساعات التي لا تمضي أبداً… وهكذا… وكل شيء.
عندما تقرأ "الآن… هنا"، تجد نفسك في مواجهة مباشرة مع معجم عربي سياسي مليء بالمصطلحات التي تعيش معنا ولكننا نخجل من التلفظ بها. تجد نفسك تتعلم كلمات مثل "الاستبداد الوظيفي" "الديكتاتورية الإجرائية"، "التعذيب الوقائي"، وكلها مفردات نحتها منيف بسخريته السوداء كأنها طعنات مسننة في خاصرة اللغة الرسمية. ففي جمهوريات الصمت، تُصبح السجون مؤسسات إعادة تأهيل للذاكرة الجمعية. لا سجين هناك بريء؛ كلنا مشروع مذنب حتى يثبت العكس. ومنيف في براعة تشريحية، يفتح لنا أحشاء هذا النظام الأمني الأبدي، يُريك كيف تتحوّل الشعارات الوطنية إلى هراوات، وكيف تصبح العدالة كائنًا ورقيًا تُوزَّع نسخه في نشرات الأخبار.
دولة "الظل السميك" ووهْم الشرعية:
عبد الرحمن منيف في "الآن… هنا" كان يتحدث عن كيان طفيلي متغلغل، يسكن بين خلايا الناس دون أن يملك جسداً حقيقياً. نحن أمام دولة "الظل السميك"، حيث لا تستطيع أن تلمس الظلم لأنه ليس جسداً، وإنما هواءً فاسداً تتنفسه قهراً. وفي تلك الدولة تصبح "الشرعية" مصطلحاً إكلينيكياً يُستخدم في غرفة الإنعاش السياسي لتبرير كل أنواع الإبادة المعنوية. المعتقلون في الرواية دخلوا السجن لأنهم تجرّأوا على التفكير خارج الكتالوج الرسمي للأفكار المسموح بها. وهكذا… يتقن منيف فنّ جلد الذات الجمعية بلغة صادمة: "أنتم لستم أبرياء، لأن براءتكم صارت تهمة"، فيدخل القارئ في متاهة لغوية منيفية، حيث كل شيء مبني على مفارقة: السجن ليس سجناً، والوطن ليس وطناً، والمواطن ليس مواطناً… لكنه كل ذلك معاً في آنٍ واحد.
كما قال نيتشه عن كتبه: "من يكتب بالدم يتعلم أن الدم روح". لذا كتب عبد الرحمن منيف رواياته بأظافره على جدران المعتقل العربي الكبير، نقشها جرحاً مفتوحاً في ذاكرة كل من قرأها بصدق. كل سطر فيها كان كأنه ينظر إليّ، يُحدّق فيّ، يُحاكم صمتي، ويفضح تلك المنطقة التي في داخلي التي حاولتُ فيها أن أقنع نفسي يوماً بأن "الوضع طبيعي". إنه الكاتب الوحيد الذي شعرتُ معه أنه هو الذي يقرأني: أنا… أنت… الجميع.
فحين أقول إن عبد الرحمن منيف هو أعظم كاتب روائي على الإطلاق، فلستُ أطلق مديحًا عابرًا من باب المجاملة. فأنا أتكلم عن كاتب خطف الرواية العربية من رفوف النخبة المترفة، ورماها في وجه السلطة، في وجه الجلاد، في وجه الجغرافيا التي تعج بالأسلاك الشائكة، وأمرها أن تصرخ: "أنا هنا"
منيف في "الآن… هنا" لم يكن كاتباً يفتّش عن جائزة أدبية ولا عن مقعد في "اليونسكو"، كان كاهنًا يرتدي ثوب الساخر، يقف على أطلال حرية مسروقة ليقول لنا: "ليس هذا عنكم فحسب، عن كلّ ما حولكم… عن الأرض التي تهتزّ تحت أقدامكم، عن السجون التي تحرسها شعارات الحرية، عن العروش التي تبنى من جماجم الأحرار." وهكذا… وكل شيء.
وأخيرًا. لا أبالغ إن قلت: بعد أن قرأت "الآن… هنا"، لم أعد أنظر إلى خريطة العالم العربي بنفس الطريقة. كل مدينة، كل شارع، كل نشيد وطني، بات يُذكّرني بأنني أعيش داخل نصّ منيفيّ، حتى وإن غيّرت الأسماء والمسميات. منيف جعلني أوقن أن الاستبداد لا يرتدي بالضرورة بزّة عسكرية… أحياناً يرتدي بذلة أنيقة ويبتسم لك وهو يوقّع على مذكرة اعتقالك الفكرية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت "الآن… هنا" جزءاً من وعيي… مرآة أهرب من النظر فيها، لأنني أخشى أن أرى وجهي وقد اعتدتُ القيد… وهكذا… وكل شيء.
تعليقات
إرسال تعليق